هيثم ناجي
يستميل كتابٌ ما عينيكَ في مكتبةِ المنزل الصغيرة، وترجع بك الذاكرة إلى أعوامٍ مضتْ وأحداث ارتبطت بهذه الكتب..
في مكتبتي كتابٌ سياسي يفرض نفسه بين الكتب، يقف شامخاً، يعتلي الرف الأول، يبرز عنوانه واسم مؤلفه، وغلافه كوجهِ ضابطٍ يلقي خطاباً بعد انقلاب عسكري.
بينما تقف خلفه بترتيب عددي سلسلة كتابٍ كانت تصل إلى اليمن قبل الحرب، من بينها "ما المعرفة" إنه مختلف عن بقية السلسلة، أرتبطُ به جداً، وأتصفحه دائماً وكأنه صديقٌ يُستحب زيارته بين وقتٍ وآخر.
أما الرف الثاني ففيه شهادات تقدير حصلتُ عليها فيما مضى، وكتبٌ أدبية أفُضل حرق بعضها أو استبدالها، وأرى أن مؤلفيها يجيدون اللغة الركيكة بإتقان، وينشغلون بإقناع القارئ بسوء عيشته وبداوته، فأقول: لو كانوا هم يعيشون كما يجب؛ لما كتبوا هذه الكتب الرديئة!
نسيتُ أن أخبركم، في الرف نفسه يوجد كتاب" قضايا يمنية" للبردوني وهو مجموعة من المقالات المهمة نُشرتْ له في سبعينيات القرن الماضي.
هذا الكتاب ينسف كل الكتبِ التي تقف بجواره ولا طائل إليها ولا غرض، لا أفهم كيف استستغتها وقرأتُ بعضها عندما كنتُ طالباً جامعياً !.
في الرف الثالث طبعاتٌ جديدة لكتبٍ صدرت في القرن الماضي، وتحمل أسماء قاماتٍ أثروا بشكلٍ ملحوظ بالأدب والفكر والسياسة والعلوم الاجتماعية، سأسحب لكم كتاباً من بينها بطريقةٍ عشوائية.
إنه كتاب" الشرق الفنان" للدكتور زكي نجيب محمود، يَعرفه الجميع بأنه رائد الفلسفة الوضعية المعاصرة.
كتابه، وصف للروح الفنية عند الشرقي الذي يرى العالم بجمال مشاعره، ويقول إنها نقطة من نقاط اختلافه عن الغربي، الذي يرى العالم بعقله، فيعرض المؤلف مثالاً يشرح به قصده، يقول:رجلان أحدهما شرقي والآخر غربي ينظران نحو النجوم، الأول يرى بريقها وجمالها، بينما الآخر يفكر بالسنوات الضوئية التي يستغرقها الضوء للوصول إلى الأرض.
أؤكد هذا الرف لا مثيل له، فقد حصلتُ على كتب الرف بعد - ما أعُده- نضوجاً معرفياً وخبرة لا بأس بها.
الرفوف الستة الباقية تحوي كتباً ومجلات ثقافية لطالما كانت -وستظل- منبعاً للثقافة، وسيقرؤها أبنائي من بعدي إذا كانوا من أهل القراءة الراغبين إليها والطامعين بها.
من بين المجلات، " العربي" التي حصلتُ على بعض أعدادها مما قرأه والدي -رحمه الله- وأخوتي من بعد ذلك.
ولا ينكر الدور الكبير لهذه المجلة إلا جاحدٌ بالثقافة وتاريخ الصحافة الثقافية...
لقد أنارت في أكثر البيوت العربية عقولاً وخلقتْ بها وعياً فكرياً ومعرفياً.
للكتبِ ووسائل المعرفة مكانة في النفوس، إنها ذاكرةٌ إذا صدق محتواها، وتغلغلت مضامينها في الأفكار والسلوك، لتتجسد واقعاً مشرقاً.
من بين هذه الكتب؛ أرى أن تكريمها بالاهتمام والبحث هو أقل ما يمكن أن يقوم به مالكها.
وأرى أن الكتب التي كرمها مؤلفوها فأهتموا بمضامينها البناءة، لإنارة العقل وتغذيته بحلاوة المعرفة والتهذيب، هي الأكثر حقاً بالتكريم من غيرها التي لا تميل النفس إليها ولا تطيب بها؛ فلا عجب أن يملأ وجهها التراب ويأكلها الزمان.
صنعاء- ٢٠ سبتمبر ٢٠١٩
نشرته جريدة كواليس الجزائرية في عددها الصادر بتاريخ ٣٠ سبتمبر ٢٠١٩
لتنزيله بإمتداد pdf، اضغط هنا