JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
Home

"السُّهاف" رِوايةُ الشُعوب العَطشَى

 هيثم ناجي


   يبدو أن  الأدب سيعيش محنة صعبةً إذا لم يستطع الأديب تجاوز حدود المكان والزمان اللذين يعيشهما، والأمثلة كثيرة فالأدب العربي تكتظّ رفوف مكتباته بالأدب المبتذَل الذي لم يجتهد مؤلّفوه، فلم يجدوا لهم مكانًا في قائمة الأدباء ممّن يستحقّون هذه الصفة بكلّ جدارة.
إن الأدب وسيلة للنهضة إذا آمن كاتبه به وأيقن أنّ قوّة تأثيره لها وقعٌ على النفس المتلقّية، والأهمّ  هو قدرة الكاتب على انتقاء الفكرة وبلورتها ومنحها الحياة. ولا يمكن للكتابة بكلّ أنواعها أن تسهل على الكاتب ما لم يدرس الفكرة وشخصيّاتها دراسةً عميقة.
قرأتُ روايات الأديب السوري محمد بن يوسف كرزون الثلاث، (أنا وجدّي) التي وجدتُها تعبيرًا عن الأصالة والمعاصرة وحديثًا بين الماضي والحاضر، و(علم نفس الأغنام) التي خلقت عندي إصرارًا لأتجاوز مرحلة صعبة في حياتي لارتباط أحداثها بأحداث بلادي اليمن وكثيرًا من الدول العربية. وقرأتُ أيضًا  (السُّهاف) رائعة الأديب محمد بن يوسف كرزون الصادرة عن دار حروف منثورة في القاهرة 2019، والتي وجدتُها نقدًا سياسيًّا وأسلوبًا تربويًّا نجح الأديب بنقله عبر نصّ روائيّ مشوّق ودراميّ إلى متلقّيه، وسهّلت سلاسة اللغة من الإيصال.
وكما هو الحال في علم الاتّصال فإنّ العمليّة الاتّصاليّة التي يقوم بها أيّ إنسان عن طريق وسيلةٍ معينة، لا تكتمل إلّا إذا قابلها رجعُ صدىً من المتلقّي، وقد فكّرتُ وبدون تردّد أن أكتب انطباعي عن رواية السهاف.
وأكثر ما شدّني إلى ذلك قدرة الأديب على النقد السياسيّ بدون تجريح أو تعبئة للرواية بخطاب كراهية، كما هو حال من يكتب معارضًا أي نظام سياسيّ بعينه، وأيضًا إشاراته في الأحداث إلى العلاقات التي تربط الشعوب مع حكّامها بأسلوبٍ سرديّ مشوّق، فتندهش وأنت في صفحاتها الأولى أنّ ربّ الأسرة ينام لمدّة عشرة أيّام متواصلة، فيستيقظُ لا يعلم كم المدّة التي نامها، ولكنّه يكتفي من نومه الطويل ويتعجّب بعد ذلك من مدّته، فيسأل ابنه مراد:
- (هل تعلم أنّ الذي يبقى ثمانٍ وأربعين ساعة بدون ماء يموت؟)...
ويرّد عليه مراد:
- (أنت لم تكن في حالة عطش، ولا في حالة جوع).
ويحكي له عن طريقة إطعامه كلّ هذه المدّة، حتّى لا يموت.
فيتعجّب الأب من ابنه، ويسأل:
- (ولماذا لم توقظني؟).
- (لأنّني وجدتُكَ مستمتعًا بالنوم، ورغم تقلّبك كلّ ساعة أو ساعتين مرّة دون أن يوقظك هذا التقلب)...
في الحقيقة هذه الأسرة ليست سوى الشعب الذي تحكمه الدكتاتوريّة الفرديّة المتسلّطة، ونوم ربّ الأسرة  هو صمتُ الشعب أمام وعود الإصلاح والتغيير التي يطالب بها حاكمه، ولكنّها تقابل بمماطلة متزمّتة من قِبَلِ الحكومات وأنظمتها المعقّدة، أمّا يقظة الأب فهي الثورة، وتعجبه لم يكُ بسبب طول مدّة النوم فقط، بل بسبب قدرته على البقاء بدون أسباب الحياة الحقيقيّة.
الأسرة في الرواية، واختلاف شخصيات أفرادها وطموحاتهم وأسلوب حياتهم، دلالة واضحة المعنى عن الشعب، ولكن لا يوجد شعب بعينه يصفه الأديب في روايته ولا بلاد محدّدة، فالمناطق والمدن التي تَرِدُ ضمن الأحداث مجهولة الاسم، ويتعمّد ذلك، واعتقدتُ في أوّل الأمر - ولم أكن صائبًا - أنّه فكر بالجمهور الذي سيتلقّى المضمون، وأنّ ذكر أسماء المناطق والمدن قد يمنع الرواية من الانتشار بين قراء دول عربية لهم توجّهات أو تعصّب ما.
 ولكن المُلاحظ أنّ أكثر الروايات المنتشرة في العالم العربيّ ذكرت أسماء الأماكن الذي دارت فيها الأحداث، ولم تك عائقًا أمام انتشارها، أمّا ما تضمّنته بعضها من  القضايا أو المشكلات فقد تأطّرت بالمكان والزمان، ولم تلمس جوهر مشكلات القارئ العربيّ بشكل عامّ، ولكنّ أسماء مؤلّفيها سبقت أعمالهم، فصار تداولها مستحبًّا من باب التفاخر والتعالي.
 وهذا ما لا تجده في أدب محمد بن يوسف كرزون، فروايته (السُّهاف) هذه، وعلم نفس الأغنام الصادرة بطبعتها الأولى سنة 2018 ، موجّهتان بشكل عامّ للقارئ العربيّ أينما كان، فهو يلتمس مضمون الرواية وتؤثّر فيه.

المُلاحظ أنّ أكثر الروايات المنتشرة في العالم العربيّ ذكرت أسماء الأماكن الذي دارت فيها الأحداث، ولم تك عائقًا أمام انتشارها

 ومما يميز الأديب وانعكس على روايته،  إيمانه بوحدة الأمّة العربيّة بكلّ أقطارها، وبوحدة قضاياها ومشكلاتها قبل وحدتها السياسيّة، وانشغاله بكلّ هموم العرب، ومعارضته لكلّ الأنظمة الديكتاتورية الفرديّة المتسلّطة ومؤسّساتها البيروقراطيّة التي  ترى المستقبل  بضيق أفق وتحكم رؤيتها المنافع والأنانية في كثيرٍ من الأحيان؛ فتقف عائقًا أمام الإنسان العربيّ الطامح. 

إنّ طغيان المؤسّسات ومن يديرها ينتج عنه حالة بؤسٍ وفقدان أمل؛ تخلّف ركودًا في الإنتاج بأيّ شكلٍ من أشكاله، ويدعو الأديب في السُّهاف لتجاوز هذه المرحلة - التي تصنع فصلًا من فصول كلّ إنسان عربيّ طامح - للاستغناء عن الديكتاتوريات الفرديّة المستبدّة، والبحث عن بدائل مشروعة تستطيع احتواء الإنسان وطاقاته، ومراد (الشخصية الأولى في الرواية) مثال يمكن أن يُحتذى به، عندما قام بإنشاء مشروعه الخاصّ في قرية والدته، وعلى مساحة هيكتارين اثنين، وبإمكانات بسيطة، ساعدته على تجاوز مرحلة مهمّة في حياته، ومكّنته من إلقاء نتائج تماطل ومن ثمّ تجاهل مشروعه من قبل وزارة الفلاحة والزراعة وراء ظهره.

 إنّ طغيان المؤسّسات ومن يديرها ينتج عنه حالة بؤسٍ وفقدان أمل؛ تخلّف ركودًا في الإنتاج بأيّ شكلٍ من أشكاله

 تنتهي الرواية عندما يموت والد مراد، ولكنّها تبدأ في وجداننا؛ لتتجسّد واقعيًا في تفاصيل مهمّة تتخلّل حياة الإنسان العربي.

إنّ (السهاف) فاصلة يتوقّف عندها التأريخ لينتقل إلى مرحلة جديدة نعيشها الآن بكلّ تفاصيلها، مرحلة يُستبدَل فيها الوطني والقومي بما هو أضيق وأبعد عن العصر.ت

تروي (السُّهاف) كيف تسيّد الطغاة على الوطنية، فصارت محض خدعة، يُستدرَج بها المحكومون إلى هوّةٍ سحيقة مظلمة، فلا يُنجدهم سوى التائهين في الظلام...ا

لرواية – رغم بساطة لغتها وأسلوبها الذي يعدُّ من السهل الممتنع – مشبعة بالرموز التي يفهمها القارئ الحصيف، ومنها وليس كلّها نوم الأب في مطلع الرواية، وموته مع وصيّته الشاملة في نهايتها، وموتُ الفتاة هدى التي قتلتها العادات الاجتماعيّة القاسية... وغيرها وغيرها من الرموز المتعدّدة.و

إنّني أتساءل، وتجيبني الرواية على أسئلتي:

-ماذا بعد العطش الشديد (السُّهاف)؟

- حاجة الوجود تنقضّ على نفسها.

- ماذا بعد ذلك؟

- المعدوم يصير وجودًا.

نشر في جريدة كواليس الجزائرية،  لتصفح العدداضغط هنا


لتنزيله بإمتداد pdf اضغط هنا
NameEmailMessage