عندما اشتعلت الخلافات بين حكام ممالك اليمن " سبأ وحمير وحضرموت " في القرون الميلادية الأولى، سبب ذلك ضعفا وتمزقا؛ مما جعل الدول الكبرى وأذيالها يبرزون أنيابهم للاقتضاض على الفريسة التي تكاد أن تموت.
ظهور اليهودية والمسيحية
المراجع التي عدنا إليها رجحت إن ((ظهور الديانة اليهودية في اليمن كان سابقا للمسيحية بوقت طويل)) (٧) أما عن الزمن الذي ظهرت فيه الديانة اليهودية فالروايات كثيرة ومن الصعب ترجيح رواية على أخرى. ويختلف الباحثون أيضا في مسألة الظروف التي أتاحت لليهودية الانتشار ويرجح الباحث" أبو ذؤيب" إن الديانة اليهودية كانت أقرب إلى عقلية العرب من الديانة المسيحية التي كانت تستمد بعض تعاليمها يومئذ من الفلسفة اليونانية. (٨)
والثابت أن اليمنيين اعتنقوا اليهودية وكان لها نفوذ كبير وسط المجتمع اليمني وفي البلاط الملكي أيضا.
ومن الدلائل على انتشار اليهودية ونفوذها وبالتحديد في القرنين الرابع والخامس استخدام النقوش اليمنية للمصطلح الختامي (السلام) أو ذكر اسم قوم إسرائيل(٩)، أو جملة ( رب يهود ) كما يُفهم من النقش CIH 543 والنقش Ja 1028 والنقش515 Ry .
أما المسيحية فقد وصلت إلى اليمن في القرون الأولى الميلادية مع التجار المسيحيين، وكانت منذ البداية مرتبطة ببيزنطة.
وقد تحول جزء كبير من الأعيان في اليمن إلى المسيحية ولا سيما أقيال سلالة عبد كلال.
وفي القرن الخامس زادت متانة علاقة هؤلاء الأعيان السياسية مع بيزنطة والحبشة وأصبحوا مناصرين لهم. (۱۰)
هذا التطور الديني في اليمن أحدث صراعا داخليا بين معتنقي الديانتين اليهودية والمسيحية وكان انعكاسا للصراع بين القوتين (بيزنطة _ فارس) المتحكمتان في تجارة الغرب والشرق. وقد منح هذا الصراع الداخلي هذه الدول الذريعة للتدخل في شؤون اليمن بحجة مساعدة أتباع كل دين.
حتى أن اليهودية (( أصبحت في القرن السادس أيديولوجية خوض النضال ضد النفوذ الحبشي)). (۱۱)
الغزو الحبشي (525 ميلادية)
في العام 517 م استطاع الملك يوسف آسار يثأر أن يجلس على كرسي الحكم بعد إسقاطه معدي كرب يعفر الذي عرف عهده وسابقيه بالتحالف مع الأحباش، وقد كان تبوء الملك يوسف آسار الحكم في اليمن وإعلانه بصورة ظاهرية اعتناق الديانة اليهودية يعني قطعا للعلاقات السياسية والاقتصادية مع الأحباش.
في نفس العام قام نجاشي الحبشة بإرسال فصائل عسكرية إلى اليمن، فهب الملك يوسف ضدها وضد حلفائها المحليين، ويصف النقش Jan 1028 الذي نقر في يوليو 518م أحداث المعركة التي خاضها يوسف آسار ضد الأحباش وأيده في ذلك الأقيال لحيعة يرخم وسميفع أشوع وشرح آل بن أشوع وشرحبيل أسعد والأقيال من قبيلة يزن وذو جدن.
ويقول النقش، إنه تم إحراق الكنيسة وقتل الأحباش في معركة ظفار وفي حرب الأشاعر وفي حرب ركاب وفي جزر فرسان وفي المخا وفي حرب وحصار نجران ...
وخضعت نجران ليوسف آسار وهي المدينة التي كانت معقلا لمناصري الأحباش من المسيحيين وفيها تجار الروم الذي يرجح أن يوسف آسار قام بقتلهم.
وفي نجران ترأس الملك يوسف آسار شخصيا أعمال إعدام المسيحيين سنة 523 ميلادية (وهو ما يعرف بحادثة الأخدود)، وقد أثار هذا الحدث رد فعل عاصف في العالم المسيحي.(۱۲)
ويرى الدكتور فاروق أباظة، إن ما قام به يوسف بن سعد، لم يكن مرجعه تعصبه لليهودية فحسب، بل كان مرتبطا بالصراع السياسي الذي كان محتوما_ حينذاك_ بين الفرس والروم الشرقية (بيزنطة) لإحتلال اليمن.
ويرجح أباظة، إن يوسف كان قد قاد حملة لغزو الحبشة خلال هذه الفترة ولكنها باءت بالفشل.
وفي سنة 525 م، أعد نجاشي الحبشة حملة عسكرية على ظهر أسطول بحري ضخم إتجه إلى اليمن، واجهها يوسف آسار يثأر على ساحل البحر، واستطاع الأحباش هزيمة يوسف وقتله.
و كان للتأييد المعنوي البيزنطي للأحباش الذين كانوا على درجة كبيرة من الاستعداد والتدريب والتسليح، دورا مهما في نصرهم، وهذا ما كانت تفتقده اليمن حينها.
ويصف الدكتور أباظة الدوافع التي حركت الأحباش لغزو اليمن بالدوافع السياسية والاقتصادية والدينية، فلم يكن الانتقام لمسيحيي اليمن إلا ذريعة استطاعت الحبشة من خلالها تحقيق هذه الأهداف وأهداف حليفتها بيزنطة.
الأحباش بعد سيطرتهم على اليمن، قاموا بتعيين ((سميفع أشوع)) واليا تحت سيادتهم ولم تدم ولايته طويلا، فعين (( أرياط)) واليا على اليمن حتى عام 535م، حين قتله أبرهة الحبشي واستحوذ على السلطة واستطاع التخلص من سيادة الحبشة، وألغى عرفها بتعيين وال من الأقيال الحميرية، وقام بإعلان نفسه ملكا على اليمن.
حاول أبرهة أن يجني ثمار حكمه، فعمل على تنمية الزراعة، وأعاد إنشاء سد مأرب المدمر ، وقلص من نفوذ الديانة اليهودية في وسط المجتمع اليمني وساعد على انتشار المسيحية عن طريق المبشرين، وفي عهده تم بناء عدة كنائس، مثل: كنيسة نجران وظفار والكاتدرائية الشهيرة في صنعاء المعروفة باسم ((القليس)) والتي زخرفها بالرخام والفسيفساء وطعمها بالذهب واللؤلؤ.
الثورة ضد الأحباش
لم يستكن اليمنيون للغزو الحبشي، فقد برزت المقاومة اليمنية منذ السنوات الأولى التي وطأت فيها أقدام الأحباش أرض اليمن.
تشير الدراسات، إن انتفاضة العمال والعبيد ضد الوالي (( أرياط)) كانت أول مقاومة ضد الأحباش، وكان أرياط قد سخر العمال والعبيد لهدم الحصون اليمنية التي كانت مواقع لتمركز الجيش اليمني ضد الأحباش في التدخل الحبشي الأول ومن أهم هذه الحصون ((سلحين)) و ((بينون)).
و الأرجح أن هذه الانتفاضة لم تتسع لتشمل كل أطياف المجتمع اليمني وقد تم إخمادها.
ولكن المقاومة اليمنية ضد الأحباش لم تتوقف عند انتفاضة العمال والعبيد فبين عامي541 _ 542 م قام يزيد بن كبشة_ وهو من زعماء القبائل البارزين_ بحشد القبائل اليمنية للثورة ضد أبرهة.
وقد عثر على النقش الشهير CJH,541 والذي نقر في عهد أبرهة الحبشي ويتألف من 136 سطرا؛ يسجل أخبار ثورة يزيد والقبائل ضد الأحباش.
و حسب تفسير الدكتور مطهر الإرياني، فإن النقش ((قد سطر حينما ثار وأخلف العهد يزيد بن كبشة وهو خليفة أبرهة الذي استخلفه على كندة ولم يكن في المشرق سواه خليفة، ومع ذلك فإن يزيد ثار وأعلن تمرده ومعه من أقيال سبأ من بني سحر وهم مرة وثمامة وحنش ومرثد ومن بني خليل حنيف ذو خليل ومن اليزنيين القيل معدي كرب بن سميفع أشوع وأخوته أبناء أسلم وهعان الأسلمي وعدد من كبار بني أسلم)).
ويذكر النقش، إن أبرهة أرسل القائد جره ذا زينر لإخضاع يزيد والقبائل الثائرة وإعادتهم لطاعة أبرهة.
لكن يزيد_ كما ورد في النقش_ استطاع هزيمة جره ذا زينر وأسر مازن الأذمري أحد قادة أبرهة واستطاع إخضاع مناطق لسيطرته.
بعدها أرسل أبرهة جيشا أكبر، مما أضطر يزيد للاستسلام بعد أن تبين له عدم قدرته على مواجهة هذه القوات الحبشية التي لا قبل لها.
ولم تتوقف مسيرة الرفض الشعبي للغزو الحبشي من خلال الثورات المحلية غير المنظمة، رغم محاولات أبرهة القضاء عليها وزادت هذه الثورات اشتعالا بعد الحملة الفاشلة التي وجهها أبرهة ضد الحجاز سنة 570م (المعروفة بحادثة الفيل).
بعد مقتل أبرهة في هذه الحملة، ظهر ولديه ((مسروق)) و (( يكسوم)) وريثان لملكه، ووصفت فترة حكمهما بالضعف وانحدر في طريق الانهيار.
وفي هذه الفترة اتجه القيلان اليزنيان معدي كرب وابنه سيف إلى فارس لطلب مساعدتهم وطرد الأحباش من اليمن، وحوالي عامي 576، 577 ميلادية تم إنزال الجنود الفرس (وعددهم 600 مقاتل فقط) إلى اليمن. (۱۳) استطاعوا بمساندة قبائل يمنية طرد الأحباش وتحويل من بقي منهم إلى خدم لدى زعماء القبائل و سيف بن ذي يزن الذي عين حاكما صوريا على اليمن تحرسه حراب الفرس، الذين أطلق المؤرخون العرب عليهم لفظة الأبناء، لكن هذه الحراب كما تروي الروايات العربية لم تنقذه من انتقام الأحباش فخر صريعا بأيدي خدمه من أبناء الحبشة.
وعاد بعد مقتل سيف بن ذي يزن ابن أبرهة إلى الحكم من جديد، كما ورد في كتاب (( اليمن قبل الإسلام والقرون الأولى للهجرة)).
وخشيت فارس من سيطرة بيزنطة بواسطة حلفائها الأحباش على اليمن مرة أخرى، فقامت بإرسال 4 آلاف مقاتل بقيادة وهرز تمكنوا من تحويل اليمن إلى ولاية تابعة للإمبراطورية الساسانية (فارس).
وتولى ولاية اليمن القائد الفارسي وهرز وخلفه ابنه المرزبان ثم البينجان بن وهرز ثم ابنه خسرو وأخيرا تولى الحكم الوالي الفارسي باذان الذي اعتنق الإسلام سنة 628م وأصبحت اليمن جزءا من الدولة الإسلامية.
الثمرة
من يطلع على كتاب (( نقد التاريخ القديم)) للدكتور عارف المخلافي سيعرف معضلة البحث في هذا الفرع.
ويتضح من مقدمة الكتاب، إن التاريخ القديم ليس كباقي فروع هذا العلم، فهو يأكل نفسه؛ لأن العديد من أحداثه ومظاهره الحضارية تموت بسبب تدمير مدن أو دولة بكل تفاصيلها، وأيضا يكشف بعضه الآخر؛ لأن ممالك تحدثت عنها حضارات أخرى في كتاباتها قبل أن تكشف عنها التنقيبات في العصر الحديث.
و رغم المعضلات التي يواجهها الباحث في هذا الفرع من فروع التاريخ، إلا أننا استطعنا الطواف خلال عرضنا هذا في صفحات مهمة من تاريخ اليمن، التي لم تتغير أهمية موقعها الجغرافي بتغير وسائل التجارة العالمية خلال آلاف السنين.
وأنصح القارئ الكريم أن يتوسع بالقراءة عن هذه الفترة التاريخية المهمة، فالتجربة التي خاضتها اليمن في تاريخها القديم حية تتجسد في صفحات التاريخ اليمني حتى اللحظة رغم اختلاف الكيانات المتصارعة، فالمطامع السياسية والاقتصادية باقية لا يمحها الزمن من أجندة الدول الكبرى المتحكمة بالسياسة والاقتصاد في العالم.
شرط أن يكون دافع القراءة المعرفة والحرص على عدم الوقوع في أخطاء الماضي التي تتكرر اليوم بثوب جديد، وليس لرغبة إتباعية وتغيير للواقع وتجسيد كل تفاصيل الحياة في الماضي على الحاضر إما فكرا أو حلولا للمشكلات، ولا حتى للجدل من أجل تعزيز رأي وإلغاء آخر.
___________________________
التذييل:-
۱_ د. فاروق عثمان أباظة: حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من كلية الآداب جامعة الأسكندرية، عمل محاضرا في كلية التربية بجامعة عدن ثم خبيرا للتراث في المركز اليمني للأبحاث، من مؤلفاته: الحكم العثماني في اليمن و كتاب عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر.
۲_ يوسف، أحمد: الدور المصري في اليمن(1962_1967)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1981، ص 15.
3_ Beeston, Alfred F.L. 1937. Sabaean inscriptions. Oxford
٤_ الإرياني، مطهر، نقوش مسندية وتعليقات، مركز الدراسات والبحوث، صنعاء،1990، ط 2، ص100_ 108
5_Ryckmans, Gonzague 1955. Inscriptions sud-arabes. Douzième série. Le Muséon, 68: 297_312.
٦_ عنان، زيد بن علي، تاريخ حضارة اليمن القديم، المطبعة السلفية، القاهرة،1976، طـ 1، ص 327_331
٧_ بيوتروفسكي، م.ب : اليمن قبل الإسلام والقرون الأولى للهجرة ، ترجمة محمد الشعيبي، ط 1، دار العودة، بيروت، 1987، ص 237
٨_ ولفنسون، إسرائيل: تاريخ اليهود في بلاد العرب، تقديم طه حسين، مطبعة الاعتماد، القاهرة، 1937، ص 37
٩_ اليمن قبل الإسلام، نفس المرجع السابق: 239
۱۰_ اليمن قبل الإسلام، مرجع سابق: 241
۱۱_ اليمن قبل الإسلام، مرجع سابق: 239
۱۲_ اليمن قبل الإسلام، مرجع سابق: 76، 77
۱۳_ اليمن قبل الإسلام، مرجع سابق: 80 (بتصرف) .
نشر في موقع "الاشتراكي نت "25 مارس 2018