JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
Home

إعادةُ الوجهِ العربي للأدب ٢_٢

 



    هيثم ناجي 

أوجه أدبية

   قسم باكثير في محاضرته المحتوى الأدبي المكتوب باللُّغة العربية إلى ثلاثة [أوجه]*، أوله الوجه الماركسي، وميزهُ بالإيمان بالمادة دون القيَّم الرُّوحية وتركيزه على الصِّراع الطَّبقي، وانتهاج المنهج اللِّينيني لإقامة المجتمع الاشتراكي بنسخه على الواقع العربي.

  والملاحظ، أن هذا الوجه خفتَ ضوءه بعد انهيار الاتحاد السُّوفيتي مع استمرار أثره كما أشرنا، ويمكن ملاحظته اليوم في بعض الكتابات الواعية به والمنشورة في الإصدارات الدَّورية، مثل مجلة بدايات الفصلية وغيرها.

وثانيه، الوجه الغربي، ويصفه باكثير «بالحامل للنزعات الرَّجعية واللِّيبرالية والصَّليبية والوجودية والعدمية والعبثية ولا معقولة».

وهذه الألفاظ التي ذكرها؛ ليصف بها الوجه الغربي، صارت اليوم من المصطلحات المستهلكة ضمن الجدل السَّفسطائي بين المثقفين ومنهم الأدباء؛ وتداولها دليل على تأثير هيمنة هذا الوجه على المؤسسات التَّعليمية الأكاديمية ومناهجها والمشهد الثَّقافي الحالي.

  ويزيد باكثير مما استقرأهُ، يقول: «وجه يرى: لا حضارة إلا حضارة الغرب، ولا فن إلا فن الغرب، ولا اشتراكية إلا اشتراكية الغرب، ولا ديمقراطية إلا ديمقراطية الغرب، ولا دين إلا دين الغرب».

وأظن أن تكرير باكثير كلمة الغرب؛ هو تأكيد منه على ضياع الانتماء والهوية عند أصحاب هذا التَّوجه، واستبدالها بالوافد الغربي المنمق الشَّكل، وهذا لا يكون إلا من قُصرِ الفهم للواقع والصِّراع، ومن هيمنة ثقافية أنتجتها وسائل الاتصال الجماهيري، وبفعل بروز المنظمات المُمُوِلة للمشاريع الثَّقافية مع غياب دور الاتحادات والنَّقابات والمؤسسات الحكومية، وأيضًا انتشار أفكار غير واضحة مفاهيمها لجماعات «إسلامية» تحاول إعادة تعريف التُّراث العربي الإسلامي بمفاهيم الفكر الغربي المعاصر؛ فيقدمون الغرب باعتباره النُّموذج الأفضل، الذي يسير وفقًا للمنهج الإسلامي وهو سبب ظهور نجمه، بينما يجب معارضته؛ لأن الغرب لا يمتون للإسلام بصلة، هذا مثالٌ شائعٌ، ورغم سذاجة ظاهره، لكنه وغيره (بالملاحظة)_من النتائج المتجسدة لمحاولة إعادة تعريف مفردات التُّراث_ من أهم علل التَّأزم الفكري عند كُثر، ممن تحولت وجهتهم نحو التَّمنذج الغربي؛ متوهمون أن زوال الشَّمس نحو الغرب يعني نهاية التَّاريخ.

  وأشار باكثير، إلى ارتباط الوجه الغربي _عَلِم المتوجه أو لم يَعلَم_ بالقوة الأيديولوجية للسياسات الاستعمارية الغربية وبشبكة مخابراته.

وثالثًا الوجه العربي، وهو «الأصيل الواعي بمقومات أمته وقيّمها الأدبية والرُّوحية ويعتز بتاريخها، وينفتح على الثَّقافات العالمية بمختلف اتجاهاتها وألوانها، فلا يزيده انفتاحه عليها، واستيعابه لها، إلا ترسيخًا لأصالته العربية وتنميةً وبلورة».

  وهذا الوجه هو ما توجه به باكثير في أعماله، ورأى أنه المطلوب في المعركة ضد الاستعمار والصُّهيونية مع أحقية باقي الأوجه في المشاركة، وامتياز الوجه العربي عنهما بنفي التَّبعية لأي جهة.

فهو «سبيل لا يلتوي بسالكه عن القصد، ولا ينحرف به عن الجادة، ولا يرضى له أن يضحي بقيمة ثابتة في سبيل مكسب عاجل أو يشفي داء ليضع مكانه داء آخر، إنه السَّبيل المستقيم الواضح، الذي يوصل إلى الهدف الأسمى من أقصر الطُّرق، وبأقل التَّكاليف، وعلى أحسن الوجوه».

  وأضيف، أن هذا الوجه لا ينشأ إلا بالفهم الواضح والوعي العميق بالواقع العربي والمحلي وما يحيط بهما، وبتعزيز الانتماء؛ بإدراك الصِّراع من أقربه لمساحة الفرد الشَّخصية تصاعديًا إلى الوعي بالصِّراع الحضاري، ولا يمكن الانتقال من فهم إلى فهم، ما لم تُحل عقدة الأقرب فأعلاه ثُمَّ أعلاه.

  وينشأ الوجه العربي أولًا من تتبع طرق العلمِ والتَّنويع في القراءة المنهجية المتدرجة؛ التي تبدأ بتصور الأصول (الأساسيات) فالاستدلال بالفروع، ثُمَّ مسائل العلم ودلالاتها واعتراضاتها، وحسبنا من السَّابقين الذين تاهوا في القراءة السَّطحية غير المستندة بعلم؛ فضلُّوا وأضلّوا.

الوجه العربي لا ينشأ إلا بالفهم الواضح والوعي العميق بالواقع العربي والمحلي وما يحيط بهما، وبتعزيز الانتماء؛ بإدراك الصِّراع من أقربه لمساحة الفرد الشَّخصية تصاعديًا إلى الوعي بالصِّراع الحضاري، ولا يمكن الانتقال من فهم إلى فهم، ما لم تُحل عقدة الأقرب فأعلاه ثُمَّ أعلاه.

 الأديب العربي: منتمٍ

   استفهمني صديقٌ، هل الأديب العربي موجود؟ فحرتُ، ولم أستطع الإجابة عنه، رغم أني لم أكن لأعجز عن الإجابة بالنَّفي أو الإيجاب؛ لأن الجواب لن يكتمل ما لم نجب أولًا عن تساؤل، مَنْ الأديب العربي؟

  تختلف الأوجه في الجواب، لاختلاف المعايير، كاختلافهم حول تحديد اسم أول رواية عربية صدرت في مصر واليمن؛ فجوهر المُختلَف فيه هو محتوى المكتوب واستمداده للشكل والبناء، إما من التُّراث وإما متقمص من الغرب؛ أي أن للأوجه معايير يزنون عليها تصوراتهم للألفاظ.

  أما الأديب العربي؛ فهو: لفظٌ مركب بالإضافة، له دلالة تتضمن ارتباط العربي بالأدب، وتمتاز ماهيته عن أدباء آخرين يكتبون بالعربية: أنه أديبٌ منتمٍ، لا تفارقه هذه الميزة، ويكون انتماؤه مشروطًا بالاستفادة من المنتمى إليه والعمل لصالحه؛ أي: أن الأديب العربي هو من انتمى لواقع عروبته ومشكلاته وقضاياه وأرضه، ويعمل وفقًا لها ويصبح مسئولًا عليها، ولا تكون استفادته بانتهاز عمله للتسلق على الأكتاف، إنما بالعيش وتحقيق الذَّات فيه والرِّضا عن النَّفس.

التَّجارب التَّاريخية للنهوض بالأمم في العالم تأسست من جذور تراثها الثَّقافي مع الانفتاح على ثقافات العالم كلها؛ لإنبات أغصانٍ جديدة مثمرة، مع التَّركيز على أهمية الوعي بالصِّراع اليوم، في المعركة ضد الاستعمار الجديد والصُّهيونية؛ لأنه وعيٌ مهم لتعزيز الانتماء للمبادئ العربية، وانتسابٌ للقيّم. 

  وفي محاضرة «دور الأديب العربي في المعركة ضد الاستعمار والصُّهيونية»، لم يفت باكثير تساؤل«من الأديب العربي؟» وكان من ضمن تصوراته قبل الكتابة، وحدد له معانٍ باكتمالها يصير الكاتب أديبًا عربيًا، قال: «نقطة في تكوين الأديب العربي، أراها على قدر كبير من الأهمية، لأنها الأساس لكل ما ينبغي أن يكون عليه(...)، ليكون أهلًا للاضطلاع بتلك المسؤولية الكبرى مسؤولية الرَّائد لأمته، التُّرجمان لضميرها، الشَّارح لحقها، المدافع عن قضاياها، المتكلم بلسانها، وليؤدي دوره خير أداء في هذه المعركة التي تخوضها أمتنا اليوم»

  وأضافَ؛ إلحاقًا: «ألا وهي أن يتحلى بصفة تعلو على الصِّفات كلها وتفوقها في الخطر والأهمية: وأعني الأصالة العربية، والمقصود(...) أن يكون الأديب عربيًا في كل شيء وقبل كل شيء، عربيًا في شعوره وتفكيره، ونظرته إلى الكون والحياة، عربيًا في انتمائه واهتمامه واعتزازه بوطنه وأمته...».

  ويؤكد باكثير، أن «الأديب العربي حقًا هو الذي تكتمل فيه هذه المعاني، ولو كان يكتب بلغة أجنبية. والأديب تعوزه هذه المعاني أو بعضها، ليس في الحق أديبًا عربيًا، وإنما هو أديبٌ من العرب أو أديبٌ يكتب باللُّغة العربية».

  إذن سيكون الجواب عن تساؤل« هل الأديب العربي موجود؟» إيجابًا مع تأكيد انحصار تأثيره؛ لعدم وجود التنظيم والتنسيق ولمحدودية انتشار المؤسسات ودور النَّشر الثَّقافية، التي تتجه بهذا التَّوجه اليوم في ظل هيمنة الوجه الغربي.


   لكن يُستشرف من تفسير التَّحولات في العالم اليوم، أن بيئة خصبة سوف تُهيئ لبروز الوجه العامل على ترسيخ الثَّقافات الذَّاتية في العالم، وكبح جماح الَّثقافة الغربية المرتبطة بسياساتٍ استعمارية، إلا أنه لا يمكننا الرُّكون أو انتظار المستقبل بل الواجب النَّظر إلى الأفق وتعبيد الطَّريق نحوه.

 مع أهمية التَّركيز على وجود جهود هدفها محو الجذور العربية الثَّقافية ومحاولة إبراز النَّمط غير المدروس، الذي يُظهر التُّراث على غير حقيقته؛ ولنعلم أنهم منقادون إما لسطحية قراءة الواقع وإما لكيانات أجنبية ومنظمات وجماعات مشبوهة؛ سواء ادعوا في ظاهر فكرهم الحفاظ على الذَّات الإسلامية، أو ممن رأى في تقمص الثَّقافات الأجنبية حلًا لعقده الفردية.

والمهم هو الإيمان بالأدب ودوره في بناء نهضة ذاتية، وأن التَّجارب التَّاريخية للنهوض بالأمم في العالم تأسست من جذور تراثها الثَّقافي مع الانفتاح على ثقافات العالم كلها؛ لإنبات أغصانٍ جديدة مثمرة، مع التَّركيز على أهمية الوعي بالصِّراع اليوم، في المعركة ضد الاستعمار الجديد والصُّهيونية؛ لأنه وعيٌ مهم لتعزيز الانتماء للمبادئ العربية، وانتسابٌ للقيّم.

______________

*  ذكرها باكثير بصيغة جمع الكثرة (وجوه).
نشرته مجلة سلاف، العدد السادس، أبريل ٢٠٢٥


NameEmailMessage